إعتدنا عند الحديث عن واقع النساء العربيات في مجال العمل، التركيز على مسألة غيابهن من سوق العمل وبالمقابل على ضرورة دمجهن فيه. فالنسبة المنخفضة جدا من النساء العربيات المشاركات في سوق العمل، 27% فقط لعام 2012، جعلت مسألة دمج النساء العربيات تتصدَّر سلم الأولويات في سياق حق النساء في العمل. ونرى فعلا أن جلّ اهتمام الجمعيات النسويّة ومؤسسات المجتمع المدني، يصب بالاساس في مسألة رفع نسبة النساء العربيات المشاركات في سوق العمل.
بالمقابل، نجد أن الأقلية المشاركة من النساء العربيات في سوق العمل، بالكاد تحظى بالاهتمام أو بتسليط الضوء عليها وعلى ظروف عملها. على الرغم من أن المعطيات المتوفّرة بخصوص العاملات العربيات تشير إلى أنها من أكثر المجموعات في الدولة المعرّضة للاستغلال، التمييز ضدها وانتهاك حقوقها العمالية في سوق العمل.
هذا التباين في الجهود والطاقات التي تصب في دمج النساء العربيات في سوق العمل من جهة، وبين تلك التي تصب في تحسين ظروف عمل العاملات العربيات من جهة أخرى، هو، برأيي المتواضع، إشكالي ومغلوط لأسباب عديدة: أولا، لأن التمييز والخرق الفظ لحقوق العاملات العربيات هو قضية أساس ضمن باب حق النساء في العمل وفي المساواة عامةً؛ ثانيا، لأن واقع العاملات العربيات يشكّل بحد ذاته عائقا أساسيا أمام دمج النساء العربيات في سوق العمل؛ وثالثا، لأننا نوجّه كامل سهامنا تجاه التمييز العنصري من قبل الدولة ونهمل معالجة التمييز الجندري المتفشي في مجتمعنا وبين جمهور المشغّلين، والذي يحمل قسطا من المسؤولية ايضا عن وضع النساء العربيات في سوق العمل.
* واقع العاملات العربيات*
إن ثلث التوجهات التي تصل جمعية "عنوان العامل" في الناصرة هي لعاملات عربيات، كما نسبتهن من مجمل العمال العرب المشاركين في سوق العمل. هذه التوجهات تشير إلى خرق فظ وصعب جدا لمجمل الحقوق العمالية المحميّة ضمن قانون العمل في الدولة. وإذا قارنا بين الصورة التي تعكسها توجهات العاملات العربيات وتلك التي تعكسها توجهات العاملين العرب، نجد أن الأولى أكثر سوداويّة من حيث نوعيّة الحقوق التي يتم خرقها ومن حيث عمق ومدى الخرق للحقوق ذاتها. وهذا على الرغم من أن ظروف تشغيل العاملين العرب تعتبر بحد ذاتها، صعبة ومجحفة جدا.
وفي الحقيقة أن هذا الفرق بين المجموعتين ليس بغريب، لأن النساء العربيات تعانين من تمييز مضاعف. ويعرَّف هذا الوضع بأدبيات الحقوق بإسم "مشكلة المفرق" – الوضع الذي تتقاطع فيه هوية الفرد في أكثر من مجموعة مميّز ضدها. وفي حالة العاملات العربيات نجد أنه إضافةً إلى التمييز القومي والطبقي الذي يعانين منه، مثلهن مثل العمال العرب، فهن أيضا يعانين من التمييز الجندري المتأصّل في سوق العمل كما في المجتمع.
وهنا تجدر الإشارة إلى معطًى مهم جدا وهو أن غالبية العاملات العربيات يعملن داخل مجتمعنا وداخل بلداتنا العربية، وأن العاملات في قطاع العمل الخاص يعملن بالأساس لدى مشغّلين عرب.أي أن من يقوم بخرق حقوق العاملات العربيات في سوق العمل، هم بالأساس أبناء المجتمع من المشغّلين العرب.
ولعل أكثر الأمثلة المعبّرة عن واقع العاملات العربيات في القطاع الخاص، هو الخرق الواسع لحقّهن في أجر لا ينخفض عن الحد الأدنى للأجور. هذه القضية والتي أثارتها توجهات عديدة وصلت جمعية "عنوان العامل"، تقول الكثير عن ظروف تشغيل العاملات العربيات.حيث إن خرق حق أساسي كالحق في أجر لا ينخفض عن الحد أدنى يعني أن باقي الحقوق العمالية قد تم المساس بها دون شك. من هذا المنطلق نجد أن الحق بأجر لا يقل عن الحد الأدنى من الأجور "يتمتع" بمكانة خاصة و"أعلى"، إذا صح التعبير، مقارنةً بباقي الحقوق العمالية، فخرقه من قبل المشغّل قد يؤدي إلى سجن لمدة سنة أو غرامة باهظة جدا، تعتبر من أعلى الغرامات التي قد يتكلّف بها مشغّل وفقا لقانون العمل.
في بحث أجري عام2000 لـ د. دانئيل جوتليب من بنك إسرائيل، لفحص مدى تطبيق قانون الحد الأدنى للأجور اعتمادا على نتائج زيارات مراقبي مديرية تطبيق قوانين العمل لأماكن العمل، تبيّن أن مجموعة العاملات العربيات هي أكثر مجموعة من مواطني الدولة تتعرض لخرق قانون الحد الأدنى، وتصل نسبة الخروقات داخل هذه المجموعة الى 37%.
قضية دفع أجر أقل من الحد الأدنى للأجور، كما ذكرت، جاءت كمثال لوصف وضع العاملات العربيات في سوق العمل وخاصةً في الفرع الخاص. ولكن الخروقات التي تشير إليها توجهات العاملات العربيات هي عديدة وواسعة ومنها خرق للعديد من الحقوق العمالية المحمية، تمييز بسبب الحمل والولادة، إقالات تعسفية وتعامل مهين في مكان العمل.
والمثير للاهتمام هو أن التوجهات التي تصل "عنوان العامل"، لا تقتصر فقط على العاملات في قطاع العمل الخاص، بل أيضا العاملات العربيات في القطاع العام. فعلى سبيل المثال هناك توجهات عديدة تصل "عنوان العامل"، لموظفات عربيات يعملن في مجالس محلية عربية، قد تعرضن لمس بحقوقهن العمالية. هذه التوجهات تشير إلى أنه حتى في القطاع العام والذي تحميه اتفاقيات عمل جماعية ولجان موظفين ونقابات عمالية، تتعرض العاملة العربية للتمييز ولخرق حقوقها العمالية بشكل أكبر من الذي يتعرض له العامل العربي في هذا القطاع.
* دورنا كمجتمع في تغيير الواقع*
هذا الوصف المختصر عن الواقع المجحف وظروف التشغيل المستغلة للعاملات العربيات، يعكس التمييز الجندري الذي تعاني منه العاملات العربيات في سوق العمل، والنابع من التمييز الجندري المتأصّل في مجتمعنا. فسوق العمل هي مرآة للمجتمع، والتعامل مع المرأة على أنها معيل ثانوي وليس معيلا شريكا، على سبيل المثال، "يشرعن" بشكل أو بآخر المساس بحقها في أجر عادل، و"يشرعن" اقالتها التعسفية دون التفكير مليا بالضرر الذي يسببه المشغّل لها ولعائلتها، إضافةً لخرقه للقانون.
النسبة المنخفضة للنساء العربيات المشاركات في سوق العمل، كما أشرت بدايةً،وجّهت جل تركيز عمل مؤسسات المجتمع المدني والقيادات السياسية، لدمج النساء العربيات في سوق العمل، مقابل اهتمام ضئيل بتحسين ظروف عمل العاملات العربيات ودعمهن لتحصيل حقوقهن. وبالنتيجة كانت الدولة هي العنوان الوحيد لمجمل مطالبنا، كتوفير أماكن عمل داخل وبالقرب من البلدات العربية ، كتطوير شبكة المواصلات العامة داخل البلدات العربية، وكإقامة أطر داعمة لخروج المرأة العربية لسوق العمل مثل الحضانات.
طبعا أنا لا أقلل من دور الدولة المركزي ومسؤوليتها المباشرة لوضع النساء العربيات في سوق العمل والناتج عن سياستها العنصرية. ولكن إضافةً للتمييز العنصري، تتعرض العاملات العربيات كما ذكرت لتمييز جندري داخل سوق العمل، ولمجتمعنا مسؤولية مباشرة في هذا الشأن. وهناك حاجة ماسّة لأن تأخذ مؤسسات مجتمعنا وقياداته دورا فعّالا داخل مجتمعنا ومقابل جمهور المشغّلين وأرباب العمل، من أجل تحسين ظروف عمل العاملات العربيات وتحصيل حقوقهن.
هذا الحاجة تصب أيضا في مصلحة النساء العربيات عامةً وفي رفع نسبة مشاركتهن في سوق العمل. فالأجر المنخفض والمساس الواسع بحقوق العاملات العربيات، لا يشكّل محفزًا للنساء العربيات لدخول سوق العمل. بل أكثر من ذلك، وفقا لبحث أجرته د. عماليا ساعر من جامعة حيفا، حول تغيّب النساء العربيات من سوق العمل، كانت النتيجة الأساسية أن دخول النساء العربيات لسوق العمل لا يعود اليوم بالفائدة الاقتصادية لهن ولعائلاتهن ، وسبب مركزي في ذلك هو مستوى الأجر المتدني وشروط العمل غير القانونية للعاملات العربيات.
كما أن هذه الحاجة هي ترجمة فعليّة وشمولية أكثر لمفهوم الحق في العمل. إذ انه لا قيمة تقريبا للحق في العمل إذا لم يشمل شروط عمل عادلة وقانونية والتي بإمكانها أن توفّر ظروف حياة كريمة للعاملة وعائلتها.